احتارت كثيرا بهذا المبلغ ، وكيف تتصرف به ، هل تأخذه لتشتري به ما ينقصها من حاجات ، ام تتصدق عليه كحسنة تحسب في ميزان أعمالة ، خير من ان يصرف ماله لترويض فتيات بعمر حفيداته . احسست بضيق واكتئاب حين وضعت المبلغ أمامي ، سائلاً لها : ما هذا المبلغ يا أحلام ؟ فردت : هذا ما ارسله العجوز في محاولة لشراء قلبي يا زياد ، وأنا اضعه بين يديك كي تتصرف به ، ولكي تعلم بان احساسي فيه يوما لم يخيب .
سكت ، وبدأت تراودني بعض الشكوك والأوهام ، وهل الجميع متآمرون ضدي ، دخلت في عالم اخر صارحاً بأفكار تعصف بي ، لتحط ترحالي بمدن لا يسكنها إلا حاقدون ، ومنافقون ، لا يسكنها سوى رجال افنوا عمرهم في قتل البسمة في وجوه المحبين ، وكان من بين تلك الافكار والهواجس المميتة ، كيف وصل هذا المبلغ لأحـلام ، وهل يمكن ان تكون قد قبلت منه ، ولماذا تضعه الان امامي ،؟ و بصوت غاضب سألتها لما قبلتي منه ؟ فانفجرت ضاحكة ، قائلة اتعتقد حقا اني قبلت منه ؟ّ قالت : اذا كيف أوصله لكِ ؟ قالت : لا يا زياد ، فانا حبيبتك ولا اريد ان تفكر بهذه الطريقه ، لم افكر يوم ان اخطوا خطوة دون ان استشيرك شيء، فنحن تواعدنا ان نتشارك ونتقاسم الحياة بكل حالاتها . باختصار يا زياد ، ليس لديه الجرأة لكي يعطيني هذا المبلغ بنفسه ، وإنما ارسلها عن طريق صرافة باسمي ، وحين ذهبت لأستلمه اندهشت حين علمت من صاحب الصرافة اسم المرسل . قلت لها : أن هذا المبلغ لا يعنيني ، فتصرفي فيه كما تشائين ، كان الغضب يعمي بصيرتي ، كيف لهذا العجوز الهرم ان يخطوا هذه الخطوة الجريئة . كنت كالضعيف في كل مشكلة تستجدٌ ، أو ربما شخصا قليل التجربة والخبرة في فن ادارة الحروب العاطفية مع اناس مارسوا تلك الهواية من سنين .
ولكن كان لرونقها وتصرفها في بادئ الامر علاجاً لكل تلك المشاكل بحكمه وعقلانية متواضعة ، و كان لتصرفه دليل ايضا على خبرته في تعامل مع النساء ، وكان يدرك ان نفوسهن ذليلات للدراهم ، وإنهن عابدات مطيعات ما دام تملك مفتاح يغلق ويفتح جميع الابواب الحياة . او لعل تلك كانت بعض الامور التي اكتسبتها مؤخرا من طبيعة فهم النساء ، فالعلاقة بينهن اشبه بعلاقة روحانية ، كلن يمجد الاخر بطريقة فريدة ، فالمرأة دون المال اشبه بشجرة قاحلة قابعة في وسط الصحراء ، لا يصل الى جوفها قطرات الماء العذب ، اما المال فهو تلك القطرات العذبة ، ما إن يوصل حتى تبدأ الحياة تشرق في اغصانها ، تداعبها الرياح ، ويتخلخل ضوء الشمس الى اطراف جذوعها .
لكن ليس كل الماء الموجودة بالطبيعة عذب ، قد يروي عطش تلك الاشجار ، فكذلك ليس كل ذي مالاً يهب لك حياة سعيدة . أصبحت في الاونة الاخيرة كثيرة الشكوك والخوف ، خصوصا بعد أن وصل حديث عشقنا الى اختها الكبيرة التي تسكن بمدينة مكلا . الغريب في الحياة كيف لا تكتشف إلا متأخرا زيف الاقنعة التي يحطونها الاخرون ، وهل من الطبيعي ان يكون لديهم تلك الاوجه المتضاربة مع بعضها البعض ، كي يسيروا بالحياة على مجراها الطبيعي ، ام ان حكمة هذا الجيل تقتضي بان تصاحب كلاً بوجهه حسب المصلحة والمنفعة .
كانت تلك صدمة اخرى في انقشاع وجه اخر ، لطالما كنت اعتبره العطف والحنان ، خاصا و انني ترعرعت امام اعينها ، لكن مع ذلك لم تشفع تلك السنين التي تقاسمتها معها . لم يتوقف جوالها من الاتصال ، الكل يسألها ، الكل يحاول جس نبضها ، وهي مستميتة على رأيها ، لا يوجد شيء من تلك الاقاويل ، مجرد صداقة وأخوة لا غير ، كانت تعتقد بان هذا الجواب سيردع الكثيرين عن الثرثرة ، وستنطلي عليهم حيلتها لقطع دابر الالسن . لكن لم تنطلي عليهم تلك الحيلة ، بل باتت السنتهم اكثر حده من ذي قبل ، فبدؤوا يشككون بطهارتها وعفتها ، وأنها مغرمة بشاب يتلاعب بها ليعبث بمقدسات طهارتها ،و ليغتال سمعة وشرف اهلها الرافضين له ، ثم ليجعلهم على رحمته ، ليقبلوا اسوء الامرين ، ان يزوجوه رغم عنهم ليستتروا ولينصروا شرفهم .
تأزم الأمر ، حتى اتصل والدها في الايام التالية لمعرفة منبع تلك الشائعات والأقاويل التي وصلته في مهجره ، خاصة وان سعاد اتصلت عليه لتخبره بان بنته احلام ، مدللته الصغيرة اصبحت تلوث سمعته . كأن والد احلام شخصا اكثر انفتاحا وأكثر انسانية بمقارنة بقية اهلها ، ببعض كلمات رنانة وبصوت انثوي ناعم جعلته في صفها ، استمر الهدوء لفترة معينه ، بعدما اقنعت والدها وجعلته بصفه ، حتى عادت المشاكل من بواية اختها الكبيرة ، التي نست ما قدمته لها اثناء مرضها المزمن ناسية سهرة لياليها وخذمتها طوال فترة مرضها ، فما ان عادت من الصومال مؤخرا ، حتى بدات المشاكل الغير منتهية .