........................................ الكاتب / عمرمحمد علمي
كانت ألليله التي قبل العيد ، رافقت أحد أعمامي إلى السوق لنتسوق ونشتري ثياب العيد ، دخلنا السوق من أوسع أبوابه ، ثم اتجهنا إلى أحد المحلات المشهورة ببيع الثياب الجيدة ، دخلنا المحل ، وانصدمنا عندما رأينا الجمع الخفير الذي فيه ، وبقمة السخافة اخترقت الصفوف حتى وصلت مكان يؤهلني أن أخاطب صاحب المحل جيدا .
إلا أن المشكلة كانت مكان وقوف الطفل الصغير الذي لم يتجاوز العاشرة ، وكعادة الأناني حاولت أن أخذ مكانه الممتاز ، وفعلت هذا لكي أخرج من المحل بأسرع وقت ممكن وبرفقة مشترياتي ، وللعلم أنه لم يكن ورائي شيء أخر أعمله فيما بعد .
وما إن بادرت تطبيق خطتي لأخذ مكانه ، حتى أتى صوتا لا يخلو من رجاحة العقل وسمو الأخلاق ، تلفت لكي اعرف مكان الذي صدر منه الصوت وصاحب الصوت ، نظرت أمامي ، خلفي لكن دون جدوى .
ثم تكرر الصوت مرة أخرى بأفصح من ذي قبل ، إلا أنه لم يكن صاحبة شيخ وقوراً ، ولا لمن هو أكبر مني سناً ، ولا حتى من يقاربني عمراً ، وإنما كان لفتى صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره .
- لا تستعجل يا أخي ، وأهدأ ، وتأكد أننا سنخرج من المحل لأجل الذي دخلنها
هذا ما تـفـوه به ، عندها توقفت عن المسير ، وتوقف الدم في جسمي ، بل تجمدت في وقفتي ، وأصابني الحرج ، ثم تسبب مني العرق كالعادة ، نظرت إليه ، تمنيت أن يكون مثل سني ليكون الإقناع أكثر ، ولكي أقـتـل الإحراج في نفسي .
الإنسان دائما لا يحب أن يسمع كلام من هو اصغر منه وان كان ذلك الكلام صائبا، ومع هذا سمعت كلامه ، ولا أدري لما فعلت ذلك ربما لان كلامه كان صائبا ، وربما أحرجني فحييت أن أبدو العاقل الذي يحتكم بالعقل أمام الناس .
وربما فعلت هذا بفعل الصدمة التي أصابتني ، وفي كل الحالات لا استطيع أن أنكر أندهاشي به ومن كلامه وبرجاحة عقله وسمو أخلاقه ،والذي فرض علي إن احترم كلامه واكف عن فعلي .
يقول حكيم الشعراء زهير بن أبي سلمه :
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم .
فالإنسان ليس بصغر سنه وإنما برجاحة عقله وطلاقة لسانه ، ومما يؤكد ذلك تلك القصة الطريفة التي حدثت في عهد الخليفة الخامس ، عمر بن عبد العزيز ، وقد كان بين وفد المهنئين لعمر بالخلافة من أهل الحجاز غلام صغير وكان الوفد قد اختار الغلام ليتكلم عنهم، وهو أصغرهم .
فلما بدأ بالكلام قال له عمر: مهلاً يا غلام ليتكلم من هو أسن منك ، فقال الغلام : مهلاً يا أمير المؤمنين ، المرء بأصغريه ، قلبه ولسانه ، فإذا منح الله العبد لساناً لافظاًُ وقلباً حافظا ً، فقد إستجاد له الحلية .
يا أمير المؤمنين لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أسن منك ـ أي أحق بمجلسك هذا ممن هو أكبر منك سناً ـ. فقال عمر: تحدث يا غلام، قال: نعم يا أمير المؤمنين، نحن وفود التهنئة لا وفود المرزئة، قدمنا إليك من بلدنا، نحمد الله الذي منَّ بك علينا لم يخرجنا إليك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد أتانا منك إلي بلدنا، وأما الرهبة فقد أمّننا الله بعدلك من جورك فأعجب عمر بفصاحة الغلام وعلمه، وسداد رأيه .
فما كان من عمر إلا أن شجعه على ذلك، وزاده ثقة بنفسه وجراءة ليكون هذا الحادث موقفاً تربوياً يتعلم فيه الغلام في حضرة خليفة المسلمين، فطلب منه الموعظة فقال : عظنا يا غلام وأوجز .
فقال : نعم يا أمير المؤمنين، إن أناساً من الناس غرهم حلم الله عنهم، وطول أملهم وحسن ثناء الناس عليهم، فلا يغرنك حلم الله عنك، وطول أملك وحسن ثناء الناس عليك فتزل قدمك ثم نظر عمر في سن الغلام فإذا هو قد أتت عليه بضع عشرة سنة، فأنشأ يقول :
تعلم فليس المـرء يولد عالماً *** وليس أخو علم كمن بات جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده *** صغير إذا التفـت عليـه المحافل .
في أيامنا هذه نرى كثيرا أن الاهل وخاصتا الاب او الام لا يتقبلون - الا من رحم ربي - أي نصح او انتقاد ، فكلما أبدى الصغير رأيه قالوا : أنت صغير ، ولم تخض الحياة كما يجب ، يا الله ، عذر أقبح من الذم ، نعم قد يكون الإنسان صغيرا ، ولكن ما الضير أن يكون رأيه راجحا ، وعلمه واسعا ، ولسانه فاصلا ...؟
بصوت خافت كأنها سنفونية حزن مريعة يبدأ اعترافه قائلا : في عالمي الصغير والذي تمثله العائلة ، كثيرا ما بحثت معنى كلمة " عائلة " و " أسرة " والتي دائما ما كنت أنظر إليها أنها : وحدة الكيان والروح ، ولا ننسى حرية الاعتقاد والفكر ، فعائلتنا تفتقد كل تلك المقومات ، فأبي أراه قلما يقنعه رأي الصغير وان تظاهر انه يسمع للصغير ، أما أمي فقل عنها استبداديه بمعنى الكلمة ، تحب أن ينفذ كلامها كأن كلامها لا يقبل التجريح والشك والطعن ، مثله مثل كلام الله ، القران الكريم المنزل من لدن حكيم عليم .
كثير ما حاولت أن أقنعها بأمر ما ، مع العلم أن أمي لا تقتنع ، حاولت مرارا الخوض معها في نقاشات عقيمة ، إلا أنها شامخة برأيها غير متزحزه ، وكثير ما تردد :
- من منا أنجب الأخر .....؟
- كيف تقول إن كلامي غير صائب وأنت أبني الذي حملته ببطني تسعة أشهر ، وكيف تقومني عن الخطأ او حتى تعلمني بشيء دنيوي ؟
عندما يصل الأمر إلى ذلك أتوفق ، فأنا في الأول والأخير صغيرها كما قالت أمي ، وهي أمي وان رضيت أو أبيت ، وقبل أن يتم صاحبي كلامه سألته :
- لماذا لا تحاول أن تجلس مع أمك بعيدا عن الأنظار ، فالإنسان الكبير قلما يقتنع بأن كلامه غير صائب وخاصةً إذا كان الطرف المحاور له صغير ، ربما أمك لا تقبل منك أي نصح او إرشاد بوجود أبنائها وزوجا ، فهي دائما تريد أن تظهر للعيان أنها الكل في الكل كما يقولون .؟
أجاب قائلا:
- أتعتقد يا عمر أنني لم أحاول أن أجلس مع أمي كما قلت ، ووالدي خلق محمدا حاولت أكثر من مرة ، ولكنها كثيرا ما تتمسك برأيها بحجة أنها - أمي - وأنني أبنها ...
- ألا يحق للطفل أو الصغير أن يصوب الكبير ويخبره عن أخطائه وعيوبه ...؟
طبعا يحق للصغير ولكل إنسان أن يقول رأيه بكل حرية ، ولابد للكبير أيضا أن يستمع لكلام الصغير إن كان صائبا .
قرأت في سيرة الإمام العادل عمر بن عبد العزيز ما دار بينه وبين أبنه بعد توليه الخلافة حيث اتجه عمر بن عبد العزيز إلى بيته وآوى إلى فراشه لأجل أن يرتاح من عناء مراسيم تولي الخلافة ، فما كاد يسلم جنبه إلى مضجعه حتى أقبل عليه ابنه عبد الملك وكان عمره آنذاك سبعة عشر عامًا، وقال : ماذا تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين؟ فرد عمر: - أي بني أريد أن أغفو قليلا، فلم تبق في جسدي طاقة.
قال عبد الملك :
- أتغفو قبل أن ترد المظالم إلى أهلها يا أمير المؤمنين؟
فقال عمر:
- أي بني إني قد سهرت البارحة في عمك سليمان، وإني إذا حان الظهر صليت في الناس ورددت المظالم إلى أهلها إن شاء الله.
فقال عبد الملك :
- ومن لك يا أمير المؤمنين بأن تعيش إلى الظهر؟! فقام عمر وقبَّل ابنه وضمه إليه، ثم قال : الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني .
هنا البعض يقد يثور قائلا : ذاك عمر بن عبد العزيز ، وأين نحن منه ...؟ نعم ، ذاك عمر بن عبدا لعزيز ، ولكن كان عمر طفلا كبقية الأطفال ، ثم صار شابا ، حتى عاش كل المراحل التي يعيشها الإنسان ، الفرق بينه وبيننا هو انه منذ الصغر تربى على الحق والفضيلة وعدم هضم الأخر ، وعدم التعالي ، وغيرها من تلك الأخلاقيات التي يفتقدها أغلبنا في أيامنا هذه .
أذكر في تلك الليلة التي تجاذبت أطراف الحديث مع ابن عمي أبي ، حينها لا أدري ما الذي قلته لأستحق تلك العبارة التي قالها ثائرا : - أنا أكبر منك ، واعلم ، ما زلت شابا لا يعي الحياة .
باندهاش قلت له :
- صحيح ، أنا شاب ، ولكنني أعي الحياة ، وما الحياة إلا أنا وأنت وهي وهو ، وكل ما يدور بيننا ، والطرق الأمثل لإنجاح ذلك الأمر .
ثم لماذا الكبير دائما عندما يجد أن الصغير على الحق يركب رأسه ، بل بتجهم يقول :
- أنا أكبر منك .. وأعلم .. ما زلت صغيرا لا يعي الحياة .
لا أدري ، لماذا الكبير يحب دائما أن يكون كلامه ألأصح .. وغيره ليس صحيحا ...؟
الكل يتذكر مصعب بن عمير ، ولا اعتقد أن هناك مسلم درس التاريخ الإسلامي لا يعرف مصعب فقد كان أول سفير في الإسلام مصعب الخير كان أطلق عليه ، كان في صغره وقبل إسلامه شابًا جميلا مدللاً منعمًا، يلبس من الثياب أغلاها، يعرفه أهل مكة بعطره الذي يفوح منه دائمًا .
سمع مصعب ما سمعه أهل مكة من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم التي ينادى بها بعبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، والمساواة بين الناس والتحلي بمكارم الأخلاق، فتحركت نفسه، وتاقت جوارحه أن يتعرف على هذا الدين الجديد، ولم يمض غير قليل حتى أسرع للقاء النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم وأعلن إسلامه.
فتتسارع الأحداث ، وتحجبه أمه ، وتمنع عنه الطعام ، ويهاجر مع المهاجرين ، ثم يرجع الى مكة ، وبعد بيعتي العقبة الأولى والثانية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من آمن من الأنصار، وطلبوا منه أن يرسل معهم من يقرئهم القرآن ويعلمهم أمور دينهم، فاختار الرسول صلى الله عليه وسلم مصعبًا ليكون أول سفير له خارج مكة، وأول مهاجر إلى المدينة المنورة . حينها لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم :
- أنت صغير ، أنت شاب لا تعي الحياة بعد ، وإنما عرف أن الإسلام قام ويقوم بالشباب ، لهذا أختاره ليكون أول سفيرا للإسلام مع العلم ان كبار الصحابة كانوا موجودين حينها .
الغيضة / المهرة / اليمن .. 2006م .